فصل: اسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم الات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  اسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم الات

كان صلى الله عليه وسلم لما أفرج عن الطائف وارتحل إلى المدينة اتبعه عُرْوَةُ بن مسعود سيدهم فأدركه في طريقه وأسلم ورجع يدعو قومه فرمي بسهم في سطح بيته وهو يؤذن للصلاة فمات ومنع قومه من الطلب بدمه وقال‏:‏ هي شهادة ساقها الله إليّ وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين‏.‏ ثم قدم ابنه أبو المليح وقارب بن مسعود فأسلما وضيق مالك بن عوف على ثقيف واستباح سرحهم وقطع سابلتهم‏.‏ وبلغهم رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك واتمروا في الوفادة وعلموا أن لا طاقة لهم بحرب العرب المسلمين‏.‏ وفزعوا إلى عبد ياليل بن عمرو بن عمير فشرط عليهم أن يبعثوا معه رجالأ منهم ليحضروا مشهده خشية على نفسه مما نزل بعروة فبعثوا معه رجلين من أحلاف قومه وثلاثاً من بني مالك فخرج بهم عبد ياليل وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة التاسعة يريدون البيعة والإسلام فضرب لهم قبة في المسجد‏.‏ وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشي في أمرهم وهو الذي كتب كتابهم بخطه وكانوا لا يأكلون طعاماً يأتيهم حتى يأكل منه خالد وسألوه أن يدع لهم اللات ثلاث سنين رعياً لنسائهم وأبنائهم حتى يأنسوا فأبى وسألوه أن يعفيهم من الصلاة‏.‏ فقال‏:‏ لا خير في دين لا صلاة فيه فسألوه أن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال‏:‏ أما هذه فأنا سنكفيكم منها فأسلموا وكتب لهم وأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص أصغرهم سناً لأنه كان حريصاً على الفقه وتعلم القرآن‏.‏ ثم رجعوا إلى بلادهم وخرج معهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات وتأخر أبو سفيان حتى دخل المغيرة فتناولها بيده ليهدمها وقام بنو مُعْتِبَ دونه خشية عليه‏.‏ ثم جاء أبو سفيان وجمع ما كان لها من الحُلِيَ وقضى منه دين عُرْوَةَ والأسْوَدِ ابني مسعود كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الباقي‏.‏ الوفود ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وأسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه حتى لقد سميت سنة الوفود‏.‏ قال ابن اسحق‏:‏ وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذلك أن قريشاً كانوا إِمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل وقادتهم لا ينكرون ذلك‏.‏ وكانت قريش هي التي نصبت لحربه وخلافه‏.‏ فلما افتتحت مكة ودانت قريش ودخلها الإسلام عرفت فأول من قدم إِليه بعد تبوك وفد بني تميم وفيه من رؤوسهم عَطارِد بن حَاجِبِ بن زُرَارَةَ بن عَدَس من بني دارم بن مالك والحبابُ بن يزيد والأقْرَعُ بن حابس والزبْرَقانُ بن بدْرٍ من بني سعد وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهْتَم وهما من بني مِنْقَرٍ ونعيم بن زيد ومعهم عيينة بن حصن الفزاري‏.‏ وقد كان الأقرع وعيينة شهدا فتح مكة وخيبر وحصار الطائف ثم جاءا مع وفد بني تميم‏.‏ فلما دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجراتِ فنزلت الآيات في إِنكار ذلك عليهم‏.‏ ولما خرج قالوا‏:‏ جئنا نفاخرك بخطيبنا وشاعرنا فأذن لهمٍ فخطب عطارد وفاخر ويقال والأقرع بن حابس‏.‏ ثم أنشد الزبرقان بن بدر شعراً بالمفاخرة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن الشماس من بني الحرث بن الخزرج فخطب وحسان بن ثابت فانشد مساجلين لهم‏.‏ فاذعنوا للخطبة والشعر والسؤدد والحلم وقالوا‏:‏ هذا الرجل هو مؤيد من الله خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا ثم أسلموا‏.‏ وأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازهم‏.‏ وهذا كان شأنه مع الوفود يُنْزِلُهُم إذا قدِموا ويُجَهِّزُهم إذا رَحَلوا‏.‏ ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير مع رسولهم ومع الحرث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر‏.‏ وبعث زُرْعَةُ بن ذي يَزَنٍ رسوله مالك بن مُرّةٍ الرَهَاوِيِّ باسلامهم ومفارقة الشرك وأهله وكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابه‏.‏ وبعث إلى ذي يزن معاذ بن جَبَلَ مع رسوله مالك بن مرة لجمع الصدقات وأوصاهم برسله معاذ وأصحابه‏.‏ ثم مات عبد الله بن أُبي بن سلول في ذي القعدة ونعى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النجاشي وإنه مات في رجب قبل تبوك‏.‏ وقم وفد بهرا في ثلاثة عشر رجلاً ونزلوا على المِقِدادِ بن عمرو وجاء بهم فأسلموا وأجازهم وانصرفوا‏.‏ وقدم وفد بني البَكاء ثلاثة نفر منهم وقدم وفد بني فَرَازَةَ بضعة عشر رجلاً فيهم خارجَة بن حصن وابن أخيه الحُرُّ بن قيس فأسلموا‏.‏ ووفد عديّ بن حاتم بن طيء فأسلم‏.‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل تبوك إلى بلاد طيء علي بن أبي طالب في سرية فأغار عليهم وأصيب حاتم وسبيت ابنته وغنم سيفين في بيت أصنامه كانتا من قربان الحرث بن أبي شمَر‏.‏ وكان عديّ قد هرب قبل ذلك ولحق ببلاد قُضَاعَةَ بالشام فراراً من جيوش المسلمين وجواراً لأهل دينه من النصارى وأقام بينهم ولما سيقت ابنة حاتم جعلت في الحظيرة بباب المسجد التي كانت السبايا تحبس بها‏.‏ ومر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكلمته أن يمنّ عليها فقال‏:‏ قد فعلت ولا تعجلي حتى تجدي ذا ثِقة من قومك يبلغك إلى بلادك‏.‏ ثم آذنيني قالت‏:‏ فأقامت حتى قدم ركب من بني قضاعة وأنا أريد أن آتي أخي بالشام فعرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكساني وحملني وزودَني وخرجت معه فقدمت الشام‏.‏ فلما لقيها عدِيّ تلاوم ساعة ثم قال لها‏:‏ ماذا ترين في أمر هذا الرجل فأشارت عليه باللحاق به فوفد وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله إلى بيته وأجلسه على وسادَتِهِ بعد أن استوقفته في طريقه امرأة فوقف لها‏.‏ فعلم عَدِيّ أنه ليس بملك وإنما هو نبي‏.‏ ثم أخبره عن أخذه المرباع من قومه ولا يحلّ له فازداد استبعاداً فيه ثم قال‏:‏ لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم فوالله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف أو لعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان لغيرهم فيوشك أن تسمع بالقصور البيض من بابل قد فتحت‏.‏ فأسلم عديّ وانصرف إلى قومه ثم أنزل الله على نبيِّه الأربعين آية من سورة براءة في نبذ العهد الذي بينه وبين المشركين لا يصدّوا عن البيت ونهوا أن يقرب المسجد الحرام مشرك بعد ذلك وأن لا يطوف بالبيت عرياناً وإن كان بينه وبين رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عهد فيتم له إلى مدته وأجلهم أربعة اشهر من يوم النحر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات أبا بكر وأمره على إِقاه الحج بالموسم من هذه السنة فبلغ ذي الحُلَيْفَة فاتبعه بعلي فأخذها منه فرجع أبو بكر مشفقاً أن يكون نزل فيه قرآن‏.‏ فقال له النبي اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم ينزل شيء ولكن‏:‏ لا يبلغ عني غيري أو رجل مني‏.‏ فسار أبو بكرعلى الحجّ وعليّ على الأذن ببراءة‏.‏ فحج أبو بكر بالناس وهم على حجّ الجاهلية‏.‏ وقام علي عند العقبة يوم الأضحى فأذَّن بالآية التي جاء بها‏.‏ قال الطبري‏:‏ وفي هذه السنة فرضت الصداقات لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خذ من أموالهم صَدقة تُطَهرُهُم وَتُزَكِّيهمْ بها ‏"‏ الآية‏.‏ وفيها قدم وفد ثَعْلَبَةَ بن مُنْقِذٍ ووفد هذيم من قُضاعَةَ قال الطبري‏:‏ وفيها بعث بنو سعد بن بكر ضَمْضَامَ بن ثَعْلَبَةَ وافداً فاستحلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ما جاء به الإسلام وذكر التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحجّ واحدة واحدة حتى إِذا فرغ تشهد وأسلم وقال‏:‏ لأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيت عنه ثم لا أزيد عليها ولا انقص فلما انصرف قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِن صدق دخل الجنة‏.‏ ثم قدم على قومه فأسلموا كلهم يوم قدومه والذي عليه الجمهور أنّ قدوم ضمضام وقَصّته كانت سنة خمس‏.‏ ثم دخلت سنة عشر فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ربيع أوجمادى في سرية أربعمائة إلى نجران وما حولها يدعو بني الحرث بن كعب إلى الإسلام ويقاتلهم إِن لم يفعلوا فأسلموا وأجابوا داعيته‏.‏ وبعث الرسل في كل وجه فأسلم الناس فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه بأن يقدم مع وفدهم فأقبل خالد ومعه وفد بني الحرث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو القصَّة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بر المحجل وعبد اللّه بن قريض الزيادي وشداد بن عبد اللّه الضبابي وعمرو بن عبد اللّه الضبابي فأكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ بم كنتم تغلبون من يقاتلكم في الجاهلية قالوا‏:‏ كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحداً بظلم قال صدقتم فأسلموا وأمر عليهم قيس بن الحصين ورجعوا صدر ذي القعدة من سنة عشر ثم اتبعهم عمرو بن حزام من بني النجار ليفقههمٍ في الدين ويعلمهم السنَّة وكتب إليه كتاباً عهد إِليه في ععهده إليه وأمره بأمره‏.‏ وأقام عاملاً على نجران‏.‏ وهذا الكتاب وقع في السير مروياً واعتمده الفقهاء في الإستدلالات وفيه مآخذ كثيرة للأحكام الفقهية ونصه‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهداً من محمد النبي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى اللّه في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم مُحسنون‏.‏ وآمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يُبشِّر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلَم الناس القرآن ويفقههم فيه‏.‏ وينهى الناس فلا يمس القرآن إِنسان إِلا وهو طاهر ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم فإن اللّه حرًم الظلم ونهى عنه فقال‏:‏ ألا لَعْنَةُ الله على الظالمين‏.‏ وأن يبشَر الناس بالجَنةِ وبعَمَلِها ويُنْذِرَ الناس بالنار وعملها ويستألف الناس حتى يَتَفقَّهُوا في الدين ويعلم الناس معالم الحجِّ وسننه وفرائضه وما أمر الله به والحج الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة‏.‏ وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب صغير إِلا أن يكون ثوبأ يثنى طرفيه على عاتقه وينهى أن يختبىء أحد في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء وينهى أن يقصّ أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه وينهى إِذا كان بين الناس هَيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤه إلى الله وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا القبائل والعشائر فليُعْطِفُوهُ بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له‏.‏ ويأمر الناس بأسباغ الوضوء في وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحوا برؤوسهم كما أمرهم الله‏.‏ وأمرهم بالصلاة بوقتها وإتمام الركوع والسجود يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مُدْبِرة والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو نجوم السماء والعشاء أول الليل‏.‏ وآمر بالسعي إلى الجمعة إذا نُودِيَ لها والغسل عند الرواح إليها وآمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين أو سقت السماء وعلى ما سقى الغرب نصف العشر‏.‏ وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياة وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنمٍ سائمة وحدها شاه‏.‏ فإنها الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيراً فهو خير له‏.‏ وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني إِسلاماً خالصاً نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على نَصْرَانِيَّتهِ أو يَهُودِيَّته فإنه لا يردّ عنها وعليه الجزية وعلى كل محتلم ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار وافٍ أو عوضه ثياباً‏.‏ فمن أدى ذلك ذمة الإسلام ذمة اللّه وذمة رسوله‏.‏ ومن منع ذلك فإنه عدوّ للّه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمته وبركاته‏.‏ وقدم وفد غسان في رمضان من هذه السنة العاشرة في ثلاثة نفر فأسلموا وانصرفوا إلى قومهم فلم يجيبوا إلى الإسلام فكتموا أمرهم وهلك اثنان منهم ولقي الثلث أبو عبيدة عام اليرموك فأخبره بإسلامه وقدم فيه وفد عامر عشرة نفر فأسلموا وتعلموا الإسلام وأقرأهم النبي القرآن وانصرفوا‏.‏ وقدم في شوّال وفد سلامان بسبعة نفر رئيسهم حبيب فأسلموا عن قومهم وتعلموا القرآن وانصرفوا‏.‏ وفيها قدم أزد جرش وفد فيهم صُرَدُ بن عبد اللّه الأزدي فيء قومه ونزلوا على فَروّةَ بن عمرو‏.‏ وأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا صرداً على من أسلم منهم وأن يجاهد المشركين حوله‏.‏ فحاصر جرش ومن بها من خثعم وقبائل وكانت مدينة حصينة اجتمع إليها أهل اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين فحاصرهم شهراً‏.‏ ثم قفل عنهم فظنوا أنه انهزم فاتبعوه إلى جبل شكر فصف وحمل عليهم منهم وكانوا بعثوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رائدين وأخبرهما ذلك اليوم بواقعة شكر‏.‏ وقال‏:‏ إن بدن الله لتنحر عنده الآن فرجعا إلى قومهما فأخبراهم بذلك وأسلموا وحَمَى لهم حمى حول قريتهم‏.‏ ومنها كان إسلام هَمْدَانَ ووفادتهم على يد عليٍّ رضي اللّه عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فمكث ستة أشهر لا يجيبونه فبعث عليه السلام عليّ بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً فلما بلغ علي أوائل اليمن جمعوا له فلما لقوه صفُّوا فقدّم علي الإنذار وقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم وكتب بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسجد لله شكرأ ثم قال‏:‏ السلام على همدان ثلاث مرّات‏.‏ ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام وقدمت وفودهم وكان عمرو بن معد يكرب الزبيدي قد قال لقيس بن مكثوم المرادي‏:‏ إذهب بنا إلى هذا الرجل فلن يخفى علينا أمره فأبى قيس من ذلك‏.‏ فقدم عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم‏.‏ وكان فَرْوَةَ بن مُسَيْك المُرَاديُ على زُبَيْدَ لأنه وفد قبل عمرو مفارقاً لملوك كندَةَ فأسلم ونزل على سعد بن عَبادة وتعلَّم القرآن وفرائض الإسلام واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُرَادَ وزُبَيْدَ ومَذْحِجَ كلها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معهم في بلاده حتى كانت الوفاة‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد عبد القيس يقدمهم الجارود بن عمرو وكانوا على دين النصرانية فأسلموا ورجعوا إلى قومهم‏.‏ ولما كانت الوفاة إرتدً عبد القيس ونصبوا المُنذِر َبن النُّعمان بن المنذر الذي يسمى الغَرور وثبت الجارود على الإسلام وكان له المقام المحمود وهلك قبل أن يرجعوا‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبدي فأسلم وحسن إسلامه وهلك بعد الوفاة وقبل ردّة أهل البحرين والعلاء أمير عنده لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد بني حنيفة في سنة عشر فيهم مُسَيْلِمَةُ بن حبيب الكذّاب ورجال بن عَنْفَوَةَ وطَلْقُ بن علي بن قيس وعليهم سلمان بن حنظلة فأسلموا وأقاموا أياماً يتعلَمون القرآن من أُبَيّ بن كعب ورجّال يتعلم وطلق يؤذن لهم ومسيلمة في الرحال وذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم مكانه في رحالهم فأجازه‏.‏ وقال‏:‏ ليس بشركم مكاناً لحفظه رحالكم‏.‏ فقال مسيلمة‏:‏ عرف أن الأمر لي من بعده‏.‏ ثم ادَّعى مُسَيْلِمَةُ بعد ذلك النبَوّةَ وشهد له طلق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه في الأمر فافتتن الناس به كما سنذكره‏.‏ وفيها قدم وفد كنْدَةَ يقدمهم الأشعث بن قيس في بضعة عشر وقيل في ستين وقيل في ثمانين وعليهم الديباج والحرير وأسلموا ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فتركوه‏.‏ وقال له اشعث‏:‏ نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فضحك وقال‏:‏ ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحرث وكانا تاجرين فإذا ساحا في أرض العرب قال‏:‏ نحن بنو آكل المرار فيعتز بذلك كأن لهم عليه ولادة من الأمهات‏.‏ ثم قال‏:‏ نحن بنو النضر بن كنانة فانتفوا منا ولا ينتفي من إلينا‏.‏ وقدم مع وفد كِندَةَ وفد حضرموت وهم بنو وُلَيْعَةَ وملوكهم صُمْرَةُ ومخْوِشُ ومُسْرِحُ والضعة فأسلموا ودعا لمخوش بإزالة الرتّة من لسانه‏.‏ وقدم وائل بن حجر راغباً في الإسلام فدعا له ومسح رأسه ونودي الصلاة جامعة سرورأ بقدومه وأمر معاوية أن ينزل بالحَرةِ فمشى معه وكان راكباً فقال له معاوية‏:‏ أعطني نعلك اتوقّى بها الرمضاء فقال‏:‏ ما كنت لألبسها وقد لبستها وفي رواية لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك فقال‏:‏ اردفني فقال‏:‏ لست من ارداف الملوك‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الرمضاء قد أحرقت قدمي قال‏:‏ امش في ظلّ ناقتي كفاك به شرفاً‏.‏ ويقال أنه وفد على معاوية في خلافته فأكرمه‏.‏ وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ هذا كتاب محمد النبي لوائل بن حجر قَيل حضر موت إنك إِن أسلمت جعلت لك ما في يديك من الأرض والحصون ويؤخذ منك من كل عشرة واحدة ينظر في ذلك ذوو عدل منكم وجعلت لك ألا تظلم فيها معلّم الدين‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عليه أنصار قال عياض‏:‏ وفيه إلى الأقيال العَباهِلَة والأوْرَاع المشابيب وفيه فيِ العًبية شاة مقورّة لا لِياط ولا ضِناك وفي السيوب الخمس ومن زنى من بكر فأصفعُوه مائة واستوفضُوهُ عامأ ومن زنى من ثَيِّبِ ففرجوه بالأصاحيم ولا توصيم في الدين ولا غمه في فرائض الله وكل مُسْكِر حرام ووائل بن حجر يَتَرَفَّلُ على الأقيال‏.‏ وفيها قدم وفد محارب في عشرة نفر فأسلموا وفيها قدم وفد الرها من مذحج في خمسة عشر نفراً وأهدوا فرساً فأسلموا وتعلموا القرآن وانصرفوا‏.‏ ثم قدم نفر منهم وحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فأوصى لهم بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة وباعوها من معاوية‏.‏ وفيها قدم وفد نجران النصارى في سبعين راكباً يقدمهم أميرهم العاقب عبد المسيح من كندة وأسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل والسيد الأيهم وجادلوا عن دينهم‏.‏ فنزل صدر سورة آل عمران وآية المباهلة فأبوا منها وفرقوا وسألوا الصلح وكتب لهم به على ألف حلة في صَفَر َوألف في رَجَب وعلى دروع ورماح وخيل وحمل ثلاثين من كل صنف‏.‏ وطلبوا أن يبعث معهم والياً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح ثم جاء العاقب والسيّد وأسلما‏.‏ وفيها قدم وفد الصدف من حضرموت في بضعة عشر نفراً فأسلموا وعلمهم أوقات الصلاة وذلك في حجَّة الوداع وفي هذه السنة قدم وفد عبس قال ابن الكلبي‏:‏ وفد منهم رجل واحد فأسلم ورجع ومات في طريقه وقال الطبري‏:‏ وفيها وفد عدي بن حاتم في شعبان انتهى‏.‏ وفيها قدم وفد خولان عشرة نفر فأسلموا وهدموا صنمهم وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية قبلِ خيبر رفاعة بن زيد الضبَيْبِي من جذام وأهدى غلامأ فأسلم‏.‏ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا ولم يلبث أن قفل دحيَةُ بن خليفة الكَلْبِي منصرفاً من عند هِرَقْلَ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه تجارة فأغار عليه الهُنَيد بن عوص وقومه بنو الضليع من بطون جذام فأصابوا كل شيء معه وبلغ ذلك مسلمين من بني الضبيب فاستنقذوا ما أخفه الهنيد وابنه وردّوه على دحية‏.‏ وقدم دحية على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش من المسلمين فأغار عليهم بالقضقاض من حرَّة الرمل وقتلوا الهنيد وابنه في جماعة وكان معهم ناس من بني الضبيب فاستباحوهم معهم وقتلوهم‏.‏ فركب رِفاعَةَ بن زيد ومعه أبو زيد بن عمرو من قومه في جماعة منهم فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر فقال‏:‏ كيف أصنع بالقتلى فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه أطلق لنا من كان حياً فبعث معهم عليّ بن أبي طالب وحمله على جمل وأعطاه سيفه فلحقه بِفَيْفَاءِ الفَحْلَتَيْن وأمره برد أموالهم فردّها‏.‏ وفي هذه السنة قدم وفد عامر بن صَعَصَعَةَ فيهم عامر بن الطفَيْل بن مالك وأربد بن ربيعة بن مالك فقال له عامر‏:‏ يا محمد اجعل لي الأمر بعدك فقال‏:‏ ليس ذلك لك ولا لقومك قال‏:‏ اجعل لي الوبر ولك المدر قال لا ولكن أجعل لك أعِنَّة الخيل فإنك أمرؤ فارس‏.‏ فقال لأمْلأنَهَا عليك خيلاً ورجلاً ثم ولوا فقال‏:‏ اللهم أكفِنيهم اللهم اهدِ عامراً وأغن الإسلام عن عامر‏.‏ وذكر ابن اسحاق والطبري أنهما أرادا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقدروا عليه في قصة ذكرها أهل الصحيح ثم رجعوا إلى بلادهم فأخذه الطاعون في عنقه فمات في طريقه في أحياء بني سلول وأصابت أخاه أربد صَاعقة بعد ذلك‏.‏ ثم قدم عَلْقَمَة بن عُلاَثَة بن عوف وفيها قدم وفد طيء في خمسة عشر نفراً يقدمهم سيدِهم زيد الخيل وقُبَيْصَةُ بن الأسود من بني نبهان فأسلموا‏.‏ وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وأقطع له بئراً وأرضين معها وكتب له بذلك ومات في مرجعه‏.‏ وفي هذه السنة ادعى مسَيْلمَة النبوة وأنه أُشرِكَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر وكتب إليه‏:‏ من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك فإني قد اشركت في الأمر معك وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريش قوم لا يعدلون وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتَّبَع الهدى أما بعد فإن الأرض للِه يورثُها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏ قال الطبري‏:‏ وقد قيل‏:‏ إِنً ذلك كان بعد منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كذلك نذكر‏.‏ حجة الوداع ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في خمس ليال بقين من ذي القعدة ومعه من أشراف الناس ومائة من الإبل هدايا ودخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة ولقيه علي بن أبي طالب بصدقات نجران فحج معه وعلَم صلى الله عليه وسلم الناس مناسكهم واسترحمهم وخطب الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين حمد الله والثناء عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلَي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدأ أيها الناس إِن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا وستلقون ربِّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بَلَّغْتُ‏.‏ فمن كان عنده أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها وإِن كان رباً فهو موضوع‏:‏ فلكم رؤوس أموالك لا تَظْلِمُون ولا تَظْلَمُون‏.‏ قضى الله أنه لا ربا إِن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلُّه وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع كلُه وإن أول دم وضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المًطلب وكان مسترضعاً في بني ليث فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدىء من دم الجاهلية‏.‏ أيها الناس إِنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم‏.‏ أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عامأ ويحرمونه إِلى فيحلوا ما حرَّم الله ويحرموا ما أحلّ الله ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد الذي بين جمادى وشعبان‏.‏ أما بعد أيها الناس فإنِّ لكم على نسائكم حقّاً ولهن عليكم حقاً‏.‏ لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدأ تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإنَ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع وتضربوهنّ ضربأ غير مبرّح فإن انتهين فلهنّ رزقهنَّ وكسوتهنّ بالمعروف‏.‏ واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن من الخير شيئاً وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي فإني قد بلَّغت وتركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبداً‏:‏ كتاب اللّه وسنَة نَبِيِّه‏.‏ أيها الناس‏!‏ اسمعوا قولي واعلموا أن كل مسلم أخو المسلم وإنّ المسلمين إخوة فلا يحل لامرىء من مال أخيه إِلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم‏.‏ أللَهم قد بَلَغت فذكر أنهم قالوا اللهمَ نعم‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللهَم اشهد‏.‏ وكانت هذه الحجة تسمى حجة البلاغ وحجة الوداع لأنه لم يحج بعدها وقد كان حج قبل ذلك حجتين واعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك ثلاث‏.‏ ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشرة‏.‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم باذان‏:‏ عامل كسرى على اليمن وأسلمت اليمن أمَّره على جميع مخاليفها ولم يُشْرِك معه فيها أحد حتى مات‏.‏ وبلغه موته وهو منصرف من حجة الوداع فقسم عمله على جماعة من الصحابة‏.‏ فولى على صنعاء ابنه شَمِر ُبن باذان وعلى مَارِب أبا موسى الأشعري وعلى الجند يعلى بن أمية وعلى هَمَدان عامر بن شمر الهمداني وعلى عَكٍّ والأشْعَرِيِّين الطاهر بن أبي هالة وعلى ما بين نجران وزُمَع وزُبَيْد خالد بن سعيد بن العاص وعلى نجران عمرو بن حزام وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البَيَاضِيَ وعلى السَكاسِك والسَكونِ عُكاشَةَ بن ثور بن أصغر الغَوْثي وعلى معاوية بن كندة عبد الله المهاجر بن أبي أمية واشتكي المُهَاجِرُ فلم يذهب فكان زياد بن لبيد يقوم على عمله‏.‏ وبعث بن جبل معلِّماً لأهل اليمن وحضرموت وكان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عَديّ بن حاتم على صدقة طيء وأسد ومالك بن نويره على صدقات بني حنظلة وقسم صدقة بني سعد بين رجلين منهم وبعث العَلاءَ بن الحضرمي على البحرين وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويقدم عليه بها فوافاه من حجة الوداع كما مرّ‏.‏